• ١ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤ | ٢٦ صفر ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التربية على الحنان والحب

تحسين يقين

التربية على الحنان والحب

"إن قسيت القلوب عليك بالمحننات"..
سنعود لهذا المثل الشعبي الإنساني والعقلاني الذي ينظر نحو المستقبل ولا يبقى أسيرا للماضي!
تؤلمنا جميعا النزاعات الاجتماعية، في محيطنا ومحيط محيطنا؛ أنها ترهبنا وتربكنا وتحزننا وتثير غضبنا..جملة مشاعر وأفكار تثيرها النزاعات التي تصل حدّ الدم!
كل محيط اجتماعي ونزاعاته، ولكل ذكرياته المؤلمة، ولا تكاد تمرّ أسابيع، إلا ونفاجأ بنزاعات أودت بنفوس وممتلكات وأوقات..
نفوس عزيزة على أهلها، وعلى بلدها وعلى الإنسانية، وممتلكات كدّ أصحابها وشقوا طولا حتى امتلكوها..وأوقات نحن جميعا أولى بها لننجز أشياءنا، ونقضيها سعداء..
لا أريد أن أسمي بلدا بعينه كي أنطلق منه للحديث، ولكن السامع والقارئ لا بدّ يستحضر آخر النزاعات التي حدثت وما كانت نتيجتها من خسائر، بدون مبرر كاف..
في البدء، فقط أود أن أتمنى أمنية: وهي أن يحاسب المسيء وحده قانونيا، حتى ولو وصل عقابه أشد ما يعاقب به المجرم..لا أن يتحول النزاع الفردي بين أسرتين وعائلتين وبلدين...ليتنا نخلص من توسيع نطاق النزاعات..ليتنا نتعامل معها كما هي، بين طرفين، وإن كان لا بدّ من التدخل فليكن لفض الاشتباك لا تأجيحه، ولا صب الكاز عليه..ليتنا!
في أوقات السلم الاجتماعي الناس يبدون أصحابا..ولكن مع أول صوت يصرخ، وأول ضربة يد، يتغير الحال، فتعود إلى: وما أنا إلا من غزية إن غوت  غويت وإن ترشد غزية أرشد..!!
أتساءل وأنا أقرأ قصيدة دريد بن الصمة، هل هناك ما كان سائدا غير روح المنتسب إلى غزية غواية ورشدا دون سؤال!
وأتذكر محيطنا الاجتماعي القروي، والمديني، والبدوي، ولعلني أتحدث عن القروي كون القرويون معا ويعرفون بعضهم بعضا وتشكلون ضمن عائلات وقبائل..ففي نشأتنا الاجتماعية المسالمة، كنا إذا ما تنازعنا مع طفل يقال لنا من كبارنا: طيب يمّا..طيب يابا..علشان أبوه وامه مناح..علشان عمه..سيده..طيب يما مهو صاحبك..مش انتو كنت تلعبوا سوا سوا.." إلى آخر هذا الكلام الجميل الذي نشأنا على التسامح..
كانت الأمهات الرائعات والآباء الرائعون يخففون الغضب بكلمات..بماء على نارنا البريئة، فسرعان ما تنطفئ..ونعود سيرانا الأولى التي كناها قبل ساعة..إلى لعبنا وودنا وطعامنا الفقير المشترك ولو خبزة وحبة بندورة!
هناك من كان يزيد الموقف نارا: اضربه والعن أبوه..اللي ضربك اضربه وكسر راسه..ربما قليلون هؤلاء..لكنهم كانوا، وبذلك خسروا..لأن نتائج النزاع دائما خسارة، فلا منتصر ولا مهزوم..الكل مهزوم من جميع المستويات..
وأذكر أن التسامح وصل إلى العفو لأجل روح والد الشخص المذنب..انا بسامح مش علشانك بس علشان روح ابوك في القبر اللي كان من احسن الناس..فكان المذنب يستحي ولا يكرر أفعاله..وربما يبكي تأثرا..
"كلمة تحنن وكلمة تجنن"..صدق المثل الشعبي، وكلنا صغارا وكبارا نعرف عمق هذه الكلمات القليلة الكثيرة والكريمة في معانيها..
طيّب يما..طيب يابا ..طيب يا خال..يا عم..يا سيدي..ستي وخالتي وفلان وعلان..وصاحبي وزميلي..والإعلام..والكتابة والتحريض..وإلى آخره..
المهم هو الحنان..
-..........؟
طبعا الحنان والحب..وهل أهم منهما لنواصل العيش معا!؟
سمعت مرة مثلا شعبيا انطبع في قلبي وعقلي ذكره قريبي رحمه الله لزوجته، على إثر نزاع اجتماعي اسري: "إن قسيت القلوب عليك بالمحننات"..كنت ابن ثلاثين عاما..ففهمت المثل وأعجبني..هو كرر المثل مرارا في تلك الجلسة معاتبا زوجته، فهو كناضج خبر الحياة يعرف أن الحياة تعتريها القسوة والكراهية والنفور، لكن ذلك لا يمكن أن يكون سائدا ذا ديمومة..لا يمكن..كان يطلب منها أن "تحنن" الزوجة على زوجها..الأسرة على الأسرة..الابن على ابن عمه والبنت على بنت عمها..أتذكره رحمه الله يدنو من زوجته معاتبا باحترام "إن قسيت القلوب عليك بالمحننات"..
ربما فهمته على هذا النحو، وهو يحتمل أن يفهم من جانب آخر، وهو الجانب التقليدي، فقد يضرب للرجل يساء إليه من كل جانب، فيلجأ إلى النساء ذوات الرحمة، لأنهن أكثر حنانا، فهذا حنان الأم والأخت والخالة والعمة والجدة وما شابهما من النساء بالقرابة للرجل، ولأن النساء أحن على الولد من الرجال أو الآباء...
ولربما أختلف مع هذا الفهم الذي ينمّط المرأة والرجل، بالحنان للأولى والقسوة للثاني؛ فلا أظن الحنان مقتصرا على الأنثى دون الذكر، إنه فهم قاصر..الحنان والحب والشفقة للإنسان لا لجنس معين!
المهم هو في المضمون، وهو التربية على الحنان!
والتربية على الحب؟
كيف؟
بمزيد من الحنان والحب والتسامح..الذي يبدأ في البيت والمدرسة..من الطفولة..ولعله امتد إلى الأدب العالمي والفنون..والفكر..وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي بين الدول والأفراد وبين الدول نفسها.
ولنختم مقالنا هذا بمقام موسيقي غنائي، أجد أنه يعلم ويربي على الحنان والحب والتسامح..لنسمع ونستمتع ونفكر ونتأمل ونربي على ذلك، من خلال أغنية سهرة حب ..أو "وردة عين الرمانة" جوار غنائي بين فيروز ونصري شمس الدين والمجموعة:
مين اللي فتح الردي؟ أنا اللي فتحت الردي وليش الردي عاوردي؟ بالصدفي قلنا وردي.. قربت توصل وردي.. أيه قربت توصل..مين؟. وردي ..إنتزعت السهرة ..هالحكي من قلبك؟ إيه إيه من قلبي..وردي بتوصل من هون..أنا بفردها من هون..ولوه شو هالقسا بعدك مزاعلها..عاطول مزاعلها..عالعمر مزاعلها..ومطرح ما بتكون أنا ما بكون..يا خسارة الحب..يا خجلة الأمل..تهرب الإيام تخلص بلا أمل..وتبطل وردي تكون..راية البرج ونجمة التلج غنية الحسون..هيدا كان من زمان..يا أسف الليل مضي وقت السهر..وتبقى وردي تنام عاشباك السهر..إنتا اللي كنت تقول وردة الورد..زهرة البرد عصفورة أيلول..هيدا كان من زمان..ولما عبدو طلع بوردي مين هجم عا عبدو؟..أنا؟..ولما بردت مين شلح الكنزي ولبسها لوردي؟..أنا..ومين كان بدو يرمي حالو عاسطح البلديي..كرمال الوردي الجوريي؟أنا أنا..عا سطح البلديي لو ما يتهدوا فيي..كانت راحت عليي عاسطح البلديي..كانت بكيت شويي ونسيتني من عشيي..لو ما كبر عقلاتي عاسطح البلديي..ويا هيك القماريي المنسيي ومش منسيي..بعدك قصة مكتوبي عاسطح البلديي..تذكر.."
ثم تدخل وردة..فيقوم: فيقال له: ليش واقف اقعد..فيلبي نداءهم، وربما لبى نداء قلبه..وتبدأ سهرة الحب..
لنتأمل في هذا الشعر الغنائي العميق للأخوين رحباني، المقطع الذي كان "يحنن" من مطلع "يا خسارة الحب.." لنجد كيف كان الحنان، من خلال عزف المجموعة والمحاورة على حنان العاشق المحب المخاصم للحبيبة، كيف ألانوه، وأرجعوه للحب الذي يحبه..
كلمة تحنن وكلمة تجنن..
تحدثت  الأغنية- سهرة الحب عن أسلوب "التحنين" والتربية على الحنان والتسامح بين الحبيبين اللذين اختلفا وافترقا..وليست الحياة الأسرية والاجتماعية ببعيدة عن هذا الموقف..
لبى العاشق نداء قلبه..وبدأت سهرة الحب..فليتنا نلبي نداء القلب والعقل..لنبدأ من جديد بصفحات بيضاء..
وإن قسيت القلوب عليك بالمحننات..ودمتم/ن مسالمين متسامحين..ودام السرور والسلام..

ارسال التعليق

Top